اضطراب الشخصية الحدية: التشخيص والعلاج

  • Nov. 17, 2025
  • 13
  • #Mental_health

اضطراب الشخصية الحدية: التشخيص والعلاج  ||  Borderline Personality Disorder: Diagnosis and Treatment 


 بقلم الدكتورة أروى فيصل الحجوج 10/Nov/2025

 

​يُعد اضطراب الشخصية الحدية (Borderline Personality Disorder - BPD) أحد التحديات الصحية الشديدة للسواء النفسي، بل ومن أشدها تعقيدًا وإيلامًا. إذ إنه ليس مجرد "اضطراب مزاجي"، بل يعتبر نمطا متجذراً ومستمراً من اضطرابات التنظيم العاطفي و الصورة الذاتية، والفوضى في العلاقات الشخصية (APA, 2022). 
يظهر BPD عادةً في سنوات المراهقة المتأخرة أو أوائل البلوغ، ويتميز بمسار حياة مضطرب، تُدار فيه كافة التفاعلات البشرية تحت سيطرة فرط الحساسية الجذري للرفض والهجر.


​وفيما يتعلق بالمنهجية التشخيصية والأسس السريرية للتعامل مع BPD ف​لا يمكن عزل تشخيصه في فحص بيولوجي واحد، بل هو نتيجة تقييم سريري تفاضلي وشامل يجريه أخصائيون مؤهلون. حيث يعتمد هذا التقييم على تحليل تاريخ المريض التطوري، وملاحظة سلوكه، وتحليل طبيعة علاقاته المعقدة والمستمرة.

حيث يكتمل التشخيص بوجود خمسة على الأقل من المعايير التسعة التي حددها الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5-TR)، والتي تصف نسيج حياة الفرد الذي يعيش باستمرار على حافة الهاوية الانفعالية:

  1.  ​الخوف المُهيمِن من الهجران:
    والذي يعتبر النواة الصلبة للـ BPD ويتمثل بالرعب المُتأصل والمستمر تجاه  التخلي سواء كان حقيقيًا (كالانفصال أو الطلاق) أو متخيلًا (كالتأخر في الرد على رسالة). هذا الخوف يدفع المصاب إلى بذل جهود يائسة ومحمومة لتجنب الانفصال، غالبًا ما تكون ذات نتائج عكسية.

     
  2.  ​الفوضى في العلاقات الشخصية:
    حيث تتميز علاقات المصابين بهذا الاضراب بطابع مكثف وغير مستقر، حيث يتناوبون بين "المثالية المفرطة" (Idealization)، ورؤية الآخر كالمُنقذ الكامل، وبين "الاحتقار" (Devaluation)، عندما يشعرون بخيبة أمل أو رفض طفيف. هذا التذبذب يُعرف بـ"الانشطار" (Splitting).

     
  3.  ​اضطراب الهوية المزمن:
    حيث يعيش المصابون بهذا الاضراب بصورة ذاتية غير مستقرة، يراها متغيرة ومضطربة. هذا يؤدي إلى تغيرات مفاجئة وكبيرة في الأهداف المهنية، والقيم، والأخلاقيات، والسلوك الجنسي.

     
  4.  ​الاندفاعية المُدمِرة:
    حيث يغلب نمط الاندفاعية على المصاب في مجالين على الأقل يسببان ضررًا محتملاً (مثل القيادة المتهورة، الإسراف المالي، تعاطي المخدرات، أو الأكل بنهم).

     
  5.  ​سلوكيات إيذاء الذات والانتحار:
    أو على الأقل التهديد بالانتخار أو محاولات الانتحار المتكررة بالإضافة إلى سلوكيات إيذاء الذات غير الانتحارية (NSSI)والتي تكون شائعة جدًا لدى حالات PBD، والتي تُفهم عادةً كاستجابة للألم الانفعالي الشديد أو كآلية للشعور بشيء ما بدلاً من الفراغ.

     
  6. عدم الاستقرار العاطفي (Dysregulation):
    حيث يعاني المصاب بهذا الاضطراب من تقلبات مزاجية سريعة ومكثفة تستمر عادةً لساعات قليلة. ردود الفعل العاطفية لديهم لا تتناسب مع المحفز المسبب.

     
  7.  ​الشعور بالفراغ المزمن:
    وهو شعور داخلي مؤلم بالفراغ، وغياب المعنى، وغالبًا ما يسعى المصابون لملئه بالأنشطة الاندفاعية.

     
  8. الغضب الخارج عن السيطرة:
    يعاني بعض المصابين من غضب غير ملائم ومكثف، ونوبات غضب متكررة وصعوبة كبيرة في السيطرة عليه.

     
  9. من ​الأعراض الذهانية المرتبطة بالتوتر قد تظهر أعراض بارانوية مؤقتة (جنون ارتياب) أو تفارقية (الانفصال عن الواقع أو الذات) تحدث فقط تحت الضغط الشديد.
     
  10.  فرط الحساسية للرفض (Rejection Sensitivity) كآلية مركزية :
    ​تُعَد الحساسية المفرطة، أو عدم القدرة على تنظيم العواطف (Emotional Dysregulation)، هي جوهر المعاناة في BPD (Linehan, 1993). تُترجم هذه الحساسية بشكل خاص إلى "حساسية الرفض" (Rejection Sensitivity)، وهي استعداد للقلق بشأن توقع الرفض وتفسير الإشارات الاجتماعية الغامضة على أنها رفض فعلي (Ayduk et al., 2008).

 

​وفيما يخص الأساس البيولوجي العصبي (Neurobiological Basis) فقد ​أظهرت دراسات التصوير العصبي الوظيفي (fMRI) وجود خلل عميق في الدوائر العصبية التي تدعم التنظيم العاطفي:

  1.  ​فرط نشاط اللوزة (Amygdala Hyperactivity):
    حيث تُظهر اللوزة الدماغية، وهي مركز الخوف والمعالجة العاطفية، فرط استجابة للمنبهات العاطفية السلبية، خاصة تلك المتعلقة بالانفصال أو الرفض. هذا يعزز الحساسية البيولوجية (Donegan et al., 2003).

     
  2. ​قصور التحكم الجبهي:
    هناك دليل على ضعف الاتصال بين اللوزة والقشرة الجبهية الحجاجية الإنسية (Medial Prefrontal Cortex) المسؤولة عن تثبيط الاستجابات العاطفية والتحكم في الاندفاعية (Silbersweig et al., 2007). بمعنى آخر، يستجيب جهاز الإنذار في الدماغ بقوة، لكن مركز الإطفاء يكون ضعيفا.

     


ومن سمات المصابين بهذا الاضطراب التحيز المعرفي والانفعالي، الذي يتجاوز مجرد الشعور العميق بالتحيز الإدراكي إلى ​التضخيم السلبي (Negative Appraisal)، حيث يميل المصابون بهذا الاضطرابون إلى تضخيم المواقف السلبية أو تذكرها بشكل أقوى وأسرع من الأحداث الإيجابية.

كما أن ​توقع الهجر والمبالغة في تفسير غياب الاهتمام أو اعتبار النقد البسيط كدليل قاطع على أن الشخص سيتم التخلي عنه، مما يحفز استجابة عاطفية وسلوكية عنيفة وغير متناسبة.

وفيما يخص التكامل بين الجانب البيولوجي والاجتماعي (Biosocial Model)
​لتفسير هذا الاضطراب، فقد قدمت مارشا لينهام (Marsha Linehan) النموذج البيولوجي_الاجتماعي، الذي يُعتبر حجر الزاوية في فهم BPD، والذي تزبط فيه بين عاملين رئيسيين هما: ​

  • الضعف البيولوجي الداخلي (Biological Vulnerability)
    الذي يولد الفرد حاملا له، أي باستعداد وراثي يجعله أكثر حساسية واستجابة للمحفزات، ويجعل من الصعب عليه العودة إلى مستوى أساسي من الهدوء بعد الاستثارة العاطفية.

     
  •  ​البيئة غير المصادقة (Invalidating Environment)
    والتي تشير إلى أن الفرد الحساس لبيئة طفولية تقلل من شأن تجاربه العاطفية أو ترفضها، أو تستجيب لضائقة الطفل باللوم أو العقاب. هذه البيئة تفشل في تعليم الطفل كيفية تسمية وتنظيم مشاعره.

     

ووفقا لهذا النموذج ​فإن التفاعل المستمر بين الضعف البيولوجي والبيئة غير المصادقة يؤدي إلى تعلم أن الطريقة الوحيدة للحصول على الاستجابة أو المساعدة هي من خلال السلوكيات المتطرفة أو غير المنظمة (مثل الغضب الشديد أو إيذاء الذات)، مما يؤدي إلى تطوير اضطراب الشخصية الحدية.

وأود التطرق في هذا المقال إلى المسارات العلاجية المتخصصة ​على الرغم من شدة الأعراض، لكي لا نكون قد أوحينا للقاريء الكريم بصعوبة العلاج. 
فبالرغم من أن BPD أحد الاضطرابات الشديدة التأثير على عدة جوانب من الصحة النفسية إلا أنه بنفس الوقت أحد أكثر الاضطرابات التي تستجيب بشكل جيد للعلاج النفسي المتخصص، مما يؤكد على إمكانية التعافي منه.

ففي مجالي كأخصائية في ​العلاج السلوكي المعرفي وجدت أن العلاج السلوكي الجدلي (DBT) ومن تجربة شخصية من تعاملي مع أكثر من حالة، أن العلاج السلوكي الجدليDBT الذي اعتمده القرآن الكريم قبل أن يعرف على أن لينهام هي التي طورته بناءً على نموذجها البيولوجي-الاجتماعي، يعتبر بمثابة العلاج الذهبي لاضطراب الشخصية الحدية. حيث يركز على العلاج السلوكي الجدلي على تزويد الأفراد بمهارات أساسية في أربع مجالات هي: 

  1. اليقظة الذهنية (Mindfulness). 
  2. تحمل الضيق (Distress Tolerance). 
  3. التنظيم العاطفي (Emotion Regulation). 
  4. والفعالية بين الأشخاص (Interpersonal Effectiveness).

كما أن ​العلاج القائم على التفكير (MBT) يركز على مساعدة المريض على تطوير قدرته على التفكير في حالاته العقلية (الأفكار والمشاعر والدوافع) وفي حالات الآخرين.
​العلاج المرتكز على المخطط (SFT): يهدف إلى تحديد وتغيير المخططات العاطفية والمعرفية المبكرة غير التكيفية التي نشأت في الطفولة.
​ولا يجب أن ننسى أن فهم اضطراب الشخصية الحدية هو فهم لعالم يعيش فيه الأفراد بحساسية عاطفية فائقة، حيث يصبح الرفض المتصور سيفًا يقطع العلاقات، والتهديد بالهجر يدفع إلى سلوكيات متهورة. يكمن مفتاح التعافي في إتقان مهارات التنظيم العاطفي واستبدال نمط عدم الاستقرار بنمط من الثبات.

 


​المراجع (APA 7):
​American Psychiatric Association. (2022). Diagnostic and statistical manual of mental disorders (5th ed., text rev.; DSM-5-TR).
​Ayduk, O., et al. (2008). Rejection sensitivity and mental health outcomes. Social and Personality Psychology Compass, 2(1), 201-214.
​Donegan, N. H., et al. (2003). Amygdala hyperreactivity in borderline personality disorder. Biological Psychiatry, 54(11), 1284–1293.
​Linehan, M. (1993). Cognitive-behavioral treatment of borderline personality disorder. Guilford Press.
​Silbersweig, D., et al. (2007). Neural circuitry of emotional instability in borderline personality disorder. American Journal of Psychiatry, 164(12), 1832–1841.

Share the post