الفروق التشخيصية الدقيقة بين اضطراب طيف التوحّد وفصام الطفولة

  • Nov. 15, 2025
  • 10
  • #Mental_health

 

بقلم: الدكتور رضوان أبوسيف /  أخصائي تشخيص وتطوير القدرات العقلية والذهنية
 Nov-12-2025 

 

التمييز بين اضطراب طيف التوحّد (Autism Spectrum Disorder) وفصام الطفولة (Childhood-Onset Schizophrenia) من أكثر التحديات التي تواجه الاختصاصيين في الطب التفسي واضطرابات النمو لدى الأطفال؛ نظرًا للتقاطع السريري بين بعض مظاهر الاضطرابين، ولا سيما سمات الانسحاب الاجتماعي وضعف التواصل. غير أن الدقة في قراءة بداية كل حالة منهما ومسار التطور، وطبيعة الأعراض الأساسية تُمكن المختص من الوصول إلى تشخيص فاصل وحاسم.


حيث يظهر اضطراب طيف التوحد مبكرًا وذلك بوصفه اضطرابا نمائيا عصبيا، وغالبا ما تتجلى أعراضه ومؤشراته الأولى في السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل، فالطفل المصاب بالتوحد غالبًا ما يُظهر منذ بدايات نموه تراجعًا أو ضعفًا في القدرات التفاعليّة مع الآخرين، وصعوبة في تشكيل العلاقات الاجتماعية المناسبة، إضافة إلى محدوديّة في التواصل اللفظي وغير اللفظي.

وتُعد السلوكيات النمطيّة المتكرّرة والاهتمامات الضيّقة إحدى السمات المحورية، وقد يرافق ذلك التمسّك الحاد بالروتين وصعوبة التكيف مع التغيّرات. يجدر التأكيد أنّ هذا الاضطراب في جوهره اضطرابٌ في نمو التواصل الاجتماعي والسلوك المعرفي  وليس مجرد اضطراب إدراكي ذهاني.


في المقابل، يُعدّ فصام الطفولة اضطرابًا نادرًا ينتمي إلى مجموعة الاضطرابات الذهانيّة، ولا يظهر عادةً قبل سن السابعة ، وغالبًا بعد سن العاشرة. ما يميّز هذا الاضطراب وجود أعراض ذهانية حقيقية تتجلى في الهلاوس وغالبًا السمعية منها، إضافة إلى أوهام واضطراب واضح في التفكير والسلوك. ونادرًا ما تُرى مثل هذه الأعراض في التوحّد ما لم يكن هناك اضطراب آخر مُصاحب.


أحد أهم الخطوط الفاصلة بين الاضطرابين هو مسار النمو. فالطفل الذي يُصاب بفصام الطفولة يكون نموه ولغته وتفاعله الاجتماعي طبيعيًّا نسبيًا في سنواته الأولى، ثم يبدأ تدريجيًا بإظهار علامات الانسحاب، والتدهور في الأداء المدرسي، وفقدان الانسجام الفكري والسلوكي. هذا الانحدار بعد فترة من النمو الطبيعي يُعدّ عنصرًا تفريقيًا حاسمًا. أما في التوحد، فالخصائص النمائيّة غير النمطيّة موجودة منذ مرحلة مبكرة جدًا، وغالبًا لا يمرّ الطفل بفترات استقرار نمائي ثم انحدار مفاجئ كما في الفصام.


وعلى مستوى اللغة والتواصل، نجد أن الطفل المصاب بالتوحّد قد يُظهر تأخّرًا لغويًا مبكرًا، مع مظاهر مثل الترديد اللفظي (Echolalia) أو عكس الضمائر. بينما في فصام الطفولة قد تكون القدرات اللغوية طبيعية في البداية، ثم يميل التفكير ومن ثم الكلام إلى التفكك والاضطراب، فيبدو الخطاب غير مترابط ومتقطّعًا وغير منطقي، ما يُعرف باضطراب التفكير (Thought Disorder).


وفي حين قد تظهر أشكال من السلوكيات النمطية في كلا الاضطرابين، إلا أنّ حضورها في التوحد يكون ثابتًا من السنوات المبكّرة، بينما قد تظهر في الفصام كجزء من الحالة الذهانيّة أو نتيجة لآثار جانبية دوائية. أمّا الأداء المدرسي في التوحد فقد يتراوح بين الطبيعي والمتدنّي وفقًا لقدرات الطفل الذهنية، لكنّه غالبًا يبقى مستقرًا نسبيًا. أما في الفصام، فالتدهور الأكاديمي والاجتماعي لاحقٌ وواضح بعد بدء الأعراض.


 وباختصار فإن العلامة الفاصلة الأقوى بين التوحد وفصام الطفولة هي وجود أعراض ذهانية صريحة مثل الهلاوس والأوهام وهو العامل الأكثر حسما لصالح تشخيص فصام الطفولة. بينما يفتقر اضطراب التوحد إلى هذه الظواهر بشكل جوهري، إذ لا تدخل في بنيته التشخيصية من حيث الأساس.


إن دقة التشخيص لا تعتمد على الأعراض الحالية فحسب، بل على دراسة النمو منذ الولادة، وتقييم المهارات الاجتماعية واللغوية عبر الزمن، وتحليل السياق الزمني لظهور الأعراض. فالفهم العميق لتاريخ نمو الطفل، وطبيعة التفاعل الاجتماعي في سنواته الأولى، يُعدّ حجر الزاوية في التفريق بين الاضطرابين.


مما تقدم وفي الختام يمكننا القول أنّ التوحد هو اضطراب نمائي بنيوي أساس مشكلته في التواصل الاجتماعي والسلوك، بينما فصام الطفولة هو اضطراب ذهاني جوهره في الإدراك والتفكير مع ظهور هلاوس وأوهام وتدهور لاحق بعد نمو طبيعي نسبيًا. ويظل التشخيص الدقيق مسؤولية سريرية حساسة تتطلب خبرة معمّقة، وحسن قراءة للمسار النمائي والذهني والسلوكي للطفل، لتحقيق التدخل الأمثل وضمان جودة حياة أفضل.

 

Share the post